سورة التوبة - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


قلت: {أحد}: فاعل يفسره: {استجارك}.
يقول الحق جل جلاله: {وإنْ} أتاك {أحدٌ من المشركين} المأمورين بالتعرض لهم، حيثما وجدوا، {استجاركَ}؛ يطلب جوارك، ويستأمنك، {فأجِرْهُ} أي: فأمنهُ؛ {حتى يسمع كلامَ الله} ويتدبره، ويطلع على حقيقة الأمر، لعله يُسلم، {ثم أبلغه مأمنه} أي: موضع أمنه إن لم يسلم، ولا تترك أحداً يتعرض له حتى يبلغ محل أمنه؛ {ذلك بأنهم قومٌ لا يعلمون} أي: ذلك الأمر الذي أمرتك به بسبب أنهم قوم لا علم لهم بحقيقة الإيمان، ولا تدعوهم إليه، فلا بد من إيجارهم، لعلهم يسمعون ويتدبرون؛ فيكون ذلك سبب إيمانهم.
الإشارة: وإن استجارك أيها العارف أحد من عوام المسلمين ممن لم يدخل معكم بلاد الحقائق، وأراد أن يسمع شيئاً من علوم القوم، فأجره حتى يسمع شيئاً من علومهم وأسرارهم، فلعل ذلك يكون سبباً في دخوله في طريق القوم. ولا ينبغي للفقراء أن يطردوا من يأتيهم من العوام، بل يتلطفوا معهم، ويسمعوهم ما يليق بحالهم؛ لأنَّ العوام لا علم لهم بما للخواص، فإن اطلعوا على ما خصهم الله به من العلوم دخلوا معهم، إن سبق لهم شيء من الخصوصية.
وقال شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه: لا ينبغي لأهل الخصوصية أن يدخلوا بلد العموم إلا في جوار أحد منهم، وإلاّ أنكرته البلد؛ لأن البلد أم تغير على غير أبنائها، ولا ينبغي أيضاً للعموم أن يدخلوا بلد الخصوص إلا في جوار رجل منهم، وإلا أنكرته البلد. اهـ.


قلت: {إلا الذين}: محله النصب على الاستثناء، أو جر على البدل من المشركين، أو رفع على الانقطاع، أي: لكن الذين عاهدتم فما استقاموا لكم، و (الإل): القرابة والحِلف، وحذف الفعل في قوله: {كيف وإن يظهروا عليكم}؛ للعلم به بما تقدم، أي: كيف يكون لهم عهد والحال أنهم إن يظهروا عليكم... إلخ.
يقول الحق جل جلاله: في استبعاد العهد من المشركين والوفاء به: {كيف يكونُ للمشركين عهدٌ عند الله وعندَ رسوله}؟ مع شدة حقدهم وعداوتهم للرسول وللمسلمين، مع ما تقدم لهم من النقض والخيانة فيه، {إلا الذين عاهدتُّم عند المسجد الحرام} قيل: هم المستثنون قبلُ. وقال ابن اسحاق: هي قبائل بني بكر، كانوا دخلوا وقت الحديبية، في المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش، فلم يكن نقض إلا قريش وبنو الديل من بني بكر، فأُمر المسلمون بإتمام العهد لمن لم يكن نقض. وقال ابن عباس: هم قريش، وقال مجاهد: خزاعة، وفي القولين نظر؛ لأن قريشاً وخزاعة كانوا أسلموا وقت الأذان؛ لأنهم أسلموا في الفتح، والأذان بعده بسنة.
قال تعالى في شأن من استثنى: {فما استقاموا لكم} على العهد ولم يغدروا، {فاستقيمُوا لهم} على الوفاء، أي: تربصوا بهم وانتظروا أمرهم، فإن استقاموا لكم فاستقيموا لهم، {إِن الله يحب المتقين} الذين إذا عاهدوا وفوا، وإذا قالوا صدقوا.
ثم كرر استبعاد وفائهم فقال: {كيف} يصح منهم الوفاء بعهدكم {و} هم {إن يظهرُوا عليكم} ويظفروا بكم في وقعة {لا يرقُبوا} أي: لا يراعوا {فيكم إلاَّ}؛ قرابة أو حلفاً، وقيل: ربوبية، أي: لا يراعون فيكم عظمة الربوبية ولا يخافون عقابه، {ولا ذمَّةً} أي: عهداً، أو حقاً يعاب على إغفاله، {يُرضونكم بأفواههم}؛ بأن يعدوكم بالإيمان والطاعة، والوفاء بالعهد، في الحال، مع استبطان الكفر والغدْر، {وتأبى} أي: تمنع {قلوبهم} ما تفوه به أفواههم، {وأكثرهم فاسقون} متمردون، لا عقيدة تزجرهم، ولا مروءة تردعهم، وتخصيص الأكثر؛ لما في بعض الكفرة من التمادي على العهد، والتعفف عما يجر إلى احدوثة السوء. قاله البيضاوي.
{اشْتَروا بآيات الله} أي: استبدلوا بها {ثمناً قليلاً} أي: عرضاً يسيراً، وهو اتباع الأهواء والشهوات، {فصدُّوا عن سبيله}؛ دينه المُوصل إليه، أو بيته بصد الحجاج عنه. {إنهم ساء ما كانوا يعملون} أيْ: قبح عملهم هذا، أو ساء ما كانوا يعملون من كونهم {لا يرقبون في مؤمن إلاَّ ولا ذمة}؛ فيكون تفسيراً لعملهم السوء، لا تكريراً. وقيل: الأول في الناقضين العهد، وهذا خاص بالذين اشتروا، وهم اليهود، أو الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان وأطمعهم.
وقوله تعالى؛ {في مؤمن}: فيه إشارة إلى أن عداوتهم إنما هي لأجل الإيمان فقط، وقوله أولاً: {فيكم}، كان يحتمل أن يظن ظان أن ذلك للإحن التي وقعت بينهم، فزال هذا الاحتمال بقوله: {في مؤمن}.
قاله ابن عطية: {وأولئك هم المعتدون} في الشرارة والقبح. {فإن تابوا} عن الكفر، {وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين}؛ لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، {ونفصّلُ الآيات لقوم يعلمون}، حث على تأمل ما فصل من أحكام المعاهدين وخصال التائبين. قاله البيضاوي.
الإشارة: لا ينبغي للخواص أن يثقوا بمحبة العوام، ولا يغتروا بما يسمعون من عهودهم، فإن محبتهم على الحروف، مهما رأوا خلاف ما أملوا من حروفهم، وأطماعهم، نكثوا وأدبروا، فللعارف غِنّى بالله عنهم. وفي ذلك يقول سيدنا علي كرم الله وجهه:
مَا الفَخْرُ إِلاَّ لأَهْلِ العِلْمِ إِنَّهُمُ *** عَلَى الهُدَى لمن اسْتَهْدَى أدلاَّءُ
وَقَدْرُ كل امرئ مَا كَانَ يُحسنهُ *** والجَاهِلُون لأَهْلِ العلْمٍ أَعْدَاءُ


يقول الحق جل جلاله: {وإن نكثُوا أَيمانَهم} أي: نقضوها {من بعدِ عهدهم} أي: من بعد ما أعطوكم من العهود على الوفاء بها، {وطعنوا في دينكم} بصريح التكذيب وتقبيح الأحكام، {فقاتِلُوا أئمّةَ الكفر} أي: فقاتلوهم لأنهم أئمة الكفر، فوضع أئمة الكفر موضع الضمير؛ للدلالة على أنهم صاروا بذلك ذوي الرئاسة والتقدم في الكفر، فهم أحِقاء بالقتل، وقيل: المراد رؤساء المشركين، والتخصيص: إما لأن قتلهم أهم وهم أحق به، أو للمنع من مراقبتهم، {إنهم لا أَيمان لهم} على الحقيقة، وإلاًَّ لم يقدروا أن ينكثوها، واستشهد به الحنفية على أن يمين الكافر لا تلزم، وهو ضعيف؛ لأن المراد، نفي الوثوق عليها، لا أنها ليست بأيمان. قاله البيضاوي. قلت: وما قالته الحَنَفِيِّةُ هو مذهب المالكية، إذا حنث في حال الكفر، ثم أسلم، فلا يلزمه شيء. وقرأ ابن عامر بكسر الهمزة، أي: لا أيمان لهم صحيحاً يعصم دماءهم.
{لعلهم ينتهون} أي: ليكن غرضكم في مقاتلتهم أن ينتهوا عما هم عليه، كما هي طريقة أهل الإخلاص لا إيصال الإذاية لهم، أو مقابلة عداوة.
ثم حضَّ على قتالهم فقال: {أَلاَ تُقاتِلُون قوماً نَكَثُوا أَيمانهم} التي حلفوها للرسول صلىلله عليه وسلم وللمؤمنين على ألا يعاونوا عليهم، فعاونوا بني بكر على خزاعة، {وهمّوا بإخراج الرسول} حين تشاوروا في أمره بدار الندوة على ما مرّ، {وهم بدؤوكم أول مرة} بالمعاداة والمقاتلة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام بدأهم بالدعوة، وإلزام الحجة بالكتاب والتحدي به، فعدلوا عن معارضته إلى المعاداة والمقاتلة، فما يمنعكم أن تعارضوهم وتصادموهم، {أتخشونهم} أي: أتهابون قتالهم حتى تتركوا أمري، {فالله أحقُّ أن تخشَوه إن كنتم مؤمنين}؛ فإن قضية الإيمان ألا يُخاف إلا منه.
ثم وعدهم بالنصر فقال: {قاتلوهم يُعذِّبْهُم الله بأيديكم ويُخْزِهِمْ}؛ يُهنهم بالقتل والأسر، {وينصركُمْ عليهم}، فيمكنكم من رقابهم، ويملككم أموالهم ونساءهم، {وَيشْفِ صدورَ قومٍ مؤمنين}، يعني: بني خزاعة شفوا صدورهم من بني بكر؛ لأنهم كانوا أغاروا عليهم وقتلوا فيهم. وقيل: بطوناً من اليمن قدموا مكة وأسلموا، فلقوا من أهلها أذى شديداً، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «أبشروا، فإن الفرج قريب». {ويُذْهِبْ غيظَ قلوبهم}؛ بما لقوا منهم حين أغاروا عليهم، وقد أوفى الله بما وعدهم؛ بفتح مكة وهوازن.
والآية من المعجزات. قاله البيضاوي. وهذا يقتضي أن هذا التخصيص كان قبل الفتح، فيلتئم مع ما بعده، ويبعد اتسامه مع ما قبله من البراءة، ونبذ العهد والإعلام بذلك؛ لكونه بعد الفتح، والله أعلم. قاله المحشي. ويمكن الجواب بأن يكون صدر السورة بعد الفتح، وبعضها؛ من قوله: {وإن أحد من المشركين...} إلخ نزل قبل الفتح، فإن الآيات كانت تنزل متفرقة فيقول صلى الله عليه وسلم: «اجعلوا هذه الآية في محل كذا». والله تعالى أعلم.
ثم أخبر تعالى بأن بعض المشركين يتوب من كفره بقوله: {ويتوبُ اللَّهُ على من يشاءُ} هدايته، فيهديه للإيمان، ثم يتوب عليه، وقد كان ذلك في كثير منهم. {والله عليمٌ} بما كان يكون، {حكيم} لا يفعل ولا يحكم إلا على وفق حكمته.
الإشارة: من رجع عن طريق القوم، ونقض عهد الأشياخ، ثم طعن في طريقهم، لا يرجى فلاحه، لا في الدنيا ولا في الآخرة، أعني في طريق الخصوص؛ لأنه جمع بين نقض العهد والطعن على الأولياء، وقد قال تعالى: «من آذى لي ولياً فقد آذنني بالحرب» ومن رجع عنها؛ لضعف ووهن، مع بقاء الاعتقاد والتسليم، فربما تقع الشفاعة منهم فيلحق بهم، بخلاف الأول، فقد تقدم عن القشيري، في سورة آل عمران، أنهم يريدون الشفاعة فيه، فيخلق الله صورة على مثله، فإذا رأوها تركوا الشفاعة فيه، فيبقى مع عوام أهل اليمين. فانظره. وبالله التوفيق.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8